مع ابن عبد ربّه في قرطبة الأندلس
هو أبو أحمد بن محمد بن عبد ربّه،الذي سمّاه المتنبّي"مليح الأندلس".كان جدّه الرابع مولى لهشام بن عبد الرحمان الداخل ثاني خلفاء بني أمية في الأندلس.ولد في قرطبة سنة850م وكان من أدباء الأندلس ومن شعرائها،وكتّابها المتميّزين.ترعرع ميّالا إلى العلم والأدب،فبرع في الفقه والتاريخ،كما أحبّ الموسيقى بالإضافة إلى درايته بعلم الطّبّ.وقد نسب إليه في رواية تناقلتها الألسن،أنّه أوّل من سبق إلى نظم الموشّحات،كما نسب إليه ابن بسّام صاحب الذخيرة ،الكتاب"فوات الوفيات وابن خلدون".
وقد نشأ ابن عبد ربّه في حياة مترفة منعّمة،وكان محبّا للّهو والطرب مولعا بسماع الغناء.عاصر من الخلفاء الأمويين محمد الأوّل،والمنذر ،وعبد الله بن عبد الرحمان الثالث،ومدحهم بشعر رقيق تحفّ به العذوبة والذوق الرفيع،فنال عندهم الحظوة.وبالعودة إلى صغره نجد أنّ شاعرنا قد بدأ نظم الشعر منذ صباه في الغزل مقلّدا في ذلك أبا نوّاس وشعراء الخمرة والمجون.ولمّا داهمته الشيخوخة ندم على سالف حاله،وتاب ثمّ أنشأ القصائد الزهدية على أوزان شعره الغزلي فجاءت غاية في النظم والروعة. أصيب ابن عبد ربّه في نهاية عمره بفالج ومات بقرطبة سنة940م بعد أن عاش مدّة طويلة ترك لنا في أعقابها ثروة أدبية لآتقدّر بثمن.أمّا أشعاره الكثيرة فقد دوّنها الثعالبي في مؤلّفه"يتيمة الدّهر".وشهرة هذا الرّجل الفذّ في الكتابة بزغت من خلال كتابه النّفيس"العقد الفريد"الذي حوى كثيرا من النّوادر الأدبية ولطائفها وطائفة من أخبار المتقدّمين وآثار الشعراء والكتّاب.
وهكذا سار ابن عبد ربّه على نهج المشارقة وقلّدهم في شعرهم ونثرهم،وقد رويت له موشّحات قليلة وفاسدة من حيث الأخلاق.وله شعر متين ومحكم.وقد حاول شاعرنا إنشاء ملحمة شعرية في قصيدة تتصمّن أخبار عبد الرحمان النّاصر،إلاّ أنّه أخفق في بلوغ مراده.يقول في شعره "مليح الأندلس":
ودّعتـــــني بــــزفــــرة واعــــتناق*****ثمّ قالت متــــى يكون التّلاقي
وتصدّت فأشرق الصــــبح منــــهـا*****بين تلك الجـــيوب والأطــــواق
ياسقـــــــيم الجفون من غير سقم*****بين عـــينيك مصرع العـــشّاق
إنّ يـــوم الــفراق أعـــظــــم يــوم*****ليتني مــتّ قبل يــوم الفــراق
أمّا في باب الرثاء فقد رثى شاعرنا فقدانه ولدا حيث قال:
قصـــــــــــد المنون له فمات فقيدا*****ومضى على صرف الخطوب حميدا
بأبي وأمّـــــي هالك أفـــــــــــردته*****قد كان في كلّ العلــــــــــوم فريدا
سود المقابر أصــــــــــبحت بيضا به*****وغدت له بيض الضــــــــمائر سودا
لم نــــرزه لــــمّا رزيــــنا وحـــــــده*****وإن استــــقلّ بــه المـــنون وحيــدا
لكــــن رزيــــــــنا القاسم بن محمد*****في فــــضله والأســــــود بن يزيدا
وابن المبارك في الرّقـــائق معـــمرا*****وابن المسيّب في الحـــديث سعيدا
والأخفشين فـــــصاحة وبلاغــــــــة*****والأعــــشيين روايـــة ونــــــــشيدا
كان الــــوصــــي إذا أردت وصيّـــــــة*****والمســـتفاد إذا طلــــــبت مفــــيدا
ولّى حـــفيظا في الأزمّة حافـــــــظا*****ومـــضى ودودا في الورى مـــودودا
ما كان مـــــثلي في الــــــرّزية والـدا*****ظــــــفرت يداه بمـــثله مــــــــولودا
حتّى إذا بدأ الســـــــوابق في العلى*****والعلــــــم ضمّن شلــــــــوه ملحودا
يا من يفــــــنّد في البـــــكاء مــــولّها*****ما كان يســـمع في البكا تــــــــفنيدا
تأبى القـــلوب المستكــــنّة للأســى*****من أن تـــــكون حـــجارة وحـــــــديدا
إنّ الذي باد الســــــرور بمــوتـــــــــه*****ما كــــان حـــــزني بعــده لــــــــيبيدا
ألآن لـــمّا أن حـــويــــت مـــآثــــــــرا*****أعيـــــت عــــــدوّا في الورى وحسودا
ورأيت فــــيك مـــن الصّــــلاح شمائلا*****ومـــن الــسّماح دلائـــلا وشــــــــهودا
أبكـــــي عليك إذا الحمامة أطــــــربت*****وجــــــه الصّــــباح وغــــــــرّدت تغريدا
لولا الحــــيا انّـــي أزنّ ببــــــــدعــــــة*****مـــــمّا يعـــــــدّده الــــــــــورى تعديدا
لجعلت يومــــي في المــــلاحة مأتما*****وجــــعلت يومـــــك في المـــــوالد عيدا
وقد أورد ابن عبد ربّه في كتابه" العقد الفريد"مديح المأمون من طرف رجل من بغداد حيث قال:قال ابن أبي طاهر:دخل المأمون بغداد فتلقّاه أهلها فقال رجل منهم:ياأمير المؤمنين بارك الله لك في مقدمك،وزاد في نعمتك وشكرك عن رعيتك.تقدّمت من قبلك وأتعبت من بعدك،وآيست أن يعاين مثلك.أمّا فيما مضى فلا نعرفه،وأمّا في ما بقي فلا نرحوه.فنحن جميعا ندعوا لك ونثني عليك.خصب لنا جنابك،وعذب ثوابك،وحسنت نظرتك،وكرمت مقدرتك،فجبرت الفقير وفككت الأسير.والخير بفنائك والشرّ بساحة أعدائك،والنّصر منوط بلواء نصرك ،والخذلان مع ألوية حسّادك.والبرّ فعلك قد طحطح العدوّ غضبك،وهزم مقانبهم مشهدك، وسار في النّاس عدلك ،وشسع بالنّصر ذكرك،وسكّن قوارع الأعداء ظفرك.الذّهب عطاؤك والدواة رمزك والقرطاس لحظك وأطرافك.
وجاء في "العقد الفريد"ما أورده الشبراوي حيث فال:
ألعلم أنفس ذخر أنت ذاخـــــــــــــــره*****من يدرس العلم لم تدرس مفاخــــــــره
أقـــــبل على العلم واستقبل مقاصده*****فـــــأوّل العــــــلم إقــــبال وآخـــــــــره
وقيل للخليل بن أحمد الفراهيدي:أيّهما أفضل العلم أو المال؟قال: العلم.قيل:فما بال العلماء يزدحمون على أبواب الملوك والأمراء،وهؤلاء لا يزدحمون على أبواب العلماء؟قال:ذلك لمعرفة العلماء بحقّ الملوك والأمراء وجهل هؤلاء بحقّ العلماء.قال بعضهم كما ورد في "العقد الفريد"
ألعلم يحيي قلوب المـــــــــــيّتين كما *****تحيا الــــبلاد إذا ما مـــسّها المــــــــطر
والعلم يجلو الـــعمى عيــــــن صاحبـه*****كما يجلّــــي ســـــواد الظلمة القــــمر
ومن فكاهاته التي أوردها في" العقد الفريد"حكايته عن أيّ الاثنين أغلب على الرّجل الأدب أم الطّبع.يحكى أنّ ملكا من ملوك فارس كان له وزير حازم مجرّب،فكان يعتمد رأيه ويتعرّف اليمن في مشورته.ثمّ إنّه هلك ذلك الملك وقام بعده ولده،فأعجب بنفسه مستبدّا برأيه ومشورته.فقيل له:إنّ أباك كان لا يقطع أمرا دونه.فقال:كان مخطئا فيه،وسأمتحنه بنفسي.وأرسل إليه قائلا له:أيّهما أغلب على الرجل الأدب أو الطبيعة؟فقال له الوزير:الطبيعة أغلب لأنّها أصل والأدب فرع،وكلّ فرع يرجع إلى أصله.فدعا الملك بسفرقه فلمّا وضعت أقبلت سنانير بأيديها الشّمع فوقفت حول السفرة فقال الملك للوزير :اعتبر خطأك وضعف مذهبك ،متى كان أبو هذه السنانير شمّاعا؟.فسكت عنه الوزير ثمّ قال:أمهلني في الجواب إلى الليلة المقبلة.فقال الملك:ذلك لك.فخرج الوزير ودعا غلامه قائلا له:التمس لي فأرا واربطه في خيط وجئني به.فأتاه به الغلام فعقده في سبنيّته ،و طرحه في كمّه،ثمّ راح من الغد إلى الملك .فلمّا حضرت سفرته أقبلت السنانير بالشّمع حتّى حفّت بها فحلّ الوزير الفأر من سبنيّته ثمّ ألقاه إليها،فاستبقت السنانير إليه ورمت بالشّمع حتّى كاد البيت يضطرم نارا.فقال الوزير:كيف رأيت ياصاحب الجلالة غلبة الطّبع على الأدب ورجوع الفرع إلى أصله؟قال الملك:صدقت.ورجع إلى ما كان عليه أبوه معه.وإنّما مدار كلّ شيئ على طبعه،والتّكلّف مذموم من كلّ وجه.
وفي الخطب الحماسية أورد ابن عبد ربّه في"العقد الفريد"خطبة أبي حمزة بالمدينة المنوّرة.يقول فيها:قال مالك بن أنس :خطبنا أبو حمزة خكبة شكّ فيها المستبصر وردّت المرتاب. قال: أوصيكم بتقوى الله وطاعته والعمل بأوامره ونواهيه وصلة الرحم وتعظيم ما صغّرت الجبابرة في حقّ الله تعالى،وتصغير ما عظّمت من الباطل إماتة ما أحيوا من الجور ،وإحياء ما أماتوا من الحقوق.وأن يطاع الله ويعصى العباد في طاعته.فالطّاعة للعباد من أهل طاعة الله ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.ندعوا إلى سنّة الله والقسم بالسّوية والعدل فب الرعية ووضع الأخماس في مواضعها التي أمر الله بها.إنّا والله ما خرجنا أشرا ولا بطرا ولا لهوا ولا لعبا،ولا لدولة ملك نريد أن نخوض فيها،ولا لثأر قد نيل منّا.ولكن،لمّا رأينا الأرض قد أظلمت،ومعالم الجور قد ظهرت،وكثر الادّعاء في الدّين وعمل بالهوى،وعطّلت الأحكام فقتل القائم بالقسط وعنّف القائل بالحقّ سمعنا مناديا ينادي إلى الحقّ وإلى طريق مستقيم،فأجبنا داعي الله"الآية".فأقبلنا من قبائل شتّى قليلين مستضعفين في الأرض،فآوانا الله وأيّدنا بنصره فأصبحنا بنعمته إخوانا وعلى الدّين أعوانا.يا أهل المدينة أوّلكم خير أوّل،وآخركم شرّ آخر.إنّكم أطعتم قرّاءكم وفقهاءكم فاختانوكم عن كتاب غير ذي عوج بتأويل الجاهلين وانتحال المبطلين،فأصبحتم عن الحقّ ناكبين أمواتا غير أحياء وما تشعرون.يا أهل المدينة،يا أبناء المهاجرين والأنصار والذين اتّبعوهم بإحسان ما أصحّ أصلكم أسقم فرعكم...ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله العلي العظيم."العقد الفريد"
محمد الدبلي الفاطمي