تأمّلات في أشعار أبي نواس
هو أبو علي الحسن بن هانئ المعروف بأبي نوّاس الحكميّ الشاعر المشهور ،ولد بالبصرة سنة 145هجرية،ونشأ بها ثمّ خرج إلى الكوفة ثمّ صار إلى بغداد فاستحلاه والبة بن الحباب،ورأى فيه مخايل النّجابة فصار أبو نواس معه.وكان يصحبه أينما حلّ وحيثما ارتحل،فنقل إليه الكثير من أخلاقه المتطرّفة وتصرفاته المنحرفة.ومعلوم أنّ جدّه كان مولى للجرّاح بن عبد الله الحكمي.وقد ذكر ابن عساكر في تاريخه أباه من أهل دمشق،من الجند،من رجال مروان بن محمد،انتقل إلى الأهواز من بلاد خوزستان فتزوّج فتاة اسمها"جلبان"فولدت له ولدين أحدهما أبو نوّاس،نشأ بالبصرة ولم يستطع حفظ القرآن نتيجة وفاة والده،فتخبّطت أمّه في الفقر والفاقة،فعمل مبكّرا عند أحد العطّارين،ولكنّ شغفه بالعلم ،وحبّه للمعرفة قاداه إلى مجالسة أعلام البصرة.فأخذ عنهم اللغة العربية والأدب ،ونظم الشعر.يقول ابن خلّكان:ما رأيت قطّ أوسع علما من أبي نوّاس.وأكيد أنّ هذا الأديب ترعرع ميالا إلى الخلاعة والمجون جرّاء معاشرته لصديقه والبة بن الحباب الذي كان سببه في الإصابة بعدوى هذه الأخلاق المنحلّة.وكانت رحلته إلى بغداد سببا في اتصاله بالبرامكة سنة804ميلاديةحيث مدحهم ،فنال جوائزهم القيّمة،واتّصل بالخليفة هارون الرّشيد ومدحه بقصيدة أنشدها إثر انتصار الخليفة في الحرب.وهكذا ظفر بشيئ من حبّ هارون الرشيد،ولكنّه مالبث أن سجنه بعد أن هجا قبائل عدنان.
ولمّا أفرج عنه من السجن توجّه إلى دمشق،ومنها إلى مصر،فمدح أميرها،ثمّ عاد إلى بغداد فأقام فيها زاهدا يدعو الله الثواب والمغفرة.وروي عن أنّ الخصيب أمير مصر وصاجب ديوان الخراج سأل أبا نواس عن نسبه فقال:أغناني أدبي عن نسبي.وقال اسماعيل بن نوبخت: ما رأيت أبدا أوسع علما من أبي نواس ولا أحفظ منه مع قلّة كتبه.وأبو نواس من الطبقة الأولى من الموالين وشعره عشرة أنواع وهو مجيد في العشرة .وقد اعتنى بجمع شعره جماعة من الفضلاء منهم أبو بكر الصولي،وعلي بن حمزة. لذلك يوجد ديوانه مختلفا،ومع شهرة ديوانه لا حاجة لذكره في هذا المقام .وقال اسماعيل بن نوبخت:ورأيت في بعض الكتب أنّ المأمون كان يقول:لو وصفت الدنيا نفسها لما وصفت بمثل قول أبي نواس حيث يقول:
ألا كلّ حــــــيّ هالك وابن هالك****وذو نسب في الهالكين عريق
إذا امتحن اللّبيب الدّنيا تكشّـفت****له عن عدوّ في ثيّاب صـــديق
وكان محمد الأمين قد سخط على أبي نواس لقضية جرت له معه فتهدّده بالقتل وحبسه،فكتب إليه من السّجن:
بك أستـــــجير من الـــــــــرّدى****متعوّذا من ســــــــطو بأسك
وحــــــــــــــياة رأسك لا أعـــــــــــود لمثــــــلها وحيــــــاة رأسك
مــــــن ذا يكـــــــــــون أبا نوّ****سك إن قتـــــلت أبا نوّاســــــك
ولأبي نواس مع الأمين وقائع كثيرة ،وإنّما قيل له أبو نواس لذؤابتين كانتا تنوسان على عاتقيه .وقد وصفه أبو عبد الله الجمّاز فقال:كان أبو نواس أظرف النّاس منطقا،وأغزرهم أدبا،وأقدرهم على الكلام،وأسرعهم جوابا،وأكثرهم حياء.وكان أبيض اللّون ،جميل الوجه،مليح النغمة والإشارة،ملتفّ الأعضاء بين الطويل والقصير،مسنون الوجه قائم الأنف،حسن العينين والمضحك،حلو الصورة لطيف الكفّ والأطراف.وكان فصيح اللّسان جيّد البيان،عذب الألفاظ حلو الشّمائل كثير النوادر ،وأعلم النّاس كيف تكلّمت العرب،راوية للأشعار علاّمة بالأخبار كأنّ كلامه شعر موزون.ومن هجوه لأحد البخلاء يقول:
أبو نوح دخلــــــــت عليه يوما****فغدّاني برائـــــحة الطّـــــــعام
وقدّم بينــــنا لحما سمـــــينا****أكلـــناه على طبــــــــق الكلام
فلمّا أن رفعت يدي سقاني****كؤوسا خـــــــــمرها ريح المدام
فكان كمن سقى الظمآن آلا****وكنت كــــمن تغدّى في المنام
وأبو نواس من متزعّمي المدرسة الجديدة التي تدعو إلى عدم تقليد معاصريه من الشعراء،والتي تبنّت عامل الاندفاع النفسي الذي كان بشّار بن برد من متداوليه.وقد أضاف أبو نواس إلى هذه العامل نزعات تلائم الدّهر الذي يعيش فيه،كما أخذ التّجديد بوعي كامل.ومن غيرالممكن القول بأنّه حذف من الشعر التقليدي كلّيا،بل كانت له أساليب اقتبسها ممّن سبقه،وذلك إرضاء لذوي السلطان وتقرّبا منهم.ولهذا السّبب جاء مدحه ورثاؤه تقليديا.ومن دون أدنى أيّ شكّ فأنّ الرّجل اعتنى عناية كبيرة ببابين وبهما اشتهر،وهما باب الطّرديّات وباب الخمريّات حيث كان أبو نواس أفضل شعراء الخمرة دون منازع.وقد أبلى فيها البلاء الحيّد،لأنّ أسلوبه في الخمريّات كان أسلوبا واقعيا بحيث تناولها بكلّ حواسّه جرّاء عشقه لها.فلقد تكلّم عن منظرها ومشمومها ومذاقها وتأثيرها في الحسّ والنّفس.والملاحظ أنّ أبا نواس استطاع تلافي التكرار المملّ في أسلوبه ،وتمكّن من الابتعاد عن الجمود والتقليد .فجاءت لغته لغة طبيعيّة ملائمة لخفقان عاطفته،ممّا جعل شعره سلسا وواضح المعنى وقريب المنال بفعل ثراء لغته وتنوّع أوزانه وأصناف أنغامه.وهكذا ظلّ أبو نواس متربّعا على القدرة على تشخيص الأشياء الجامدة ورسم اللّوحات الزّاهية بألوان يعبّر من خلالها على كينونته المتأجّحة وخياله القويّ.ومن قوله في وصف الخمرة:
من سلاف كأنّها كلّ شيئ****يتمنّى محيّــــر أن يكونا
أكل الدّهر ما تجسّـــم منها****ويبـقى لبابها مكـــــنونا
فإذا ما اجتلــــيتها فهـــباء****تمنع الكفّ ما تبيح العيونا
وتوفي رحمه الله ببغداد بعد أن أقام بها زاهدا يدعو الله الثواب والمغفرة سنة814ميلادية
محمد الدبلي الفاطمي
هو أبو علي الحسن بن هانئ المعروف بأبي نوّاس الحكميّ الشاعر المشهور ،ولد بالبصرة سنة 145هجرية،ونشأ بها ثمّ خرج إلى الكوفة ثمّ صار إلى بغداد فاستحلاه والبة بن الحباب،ورأى فيه مخايل النّجابة فصار أبو نواس معه.وكان يصحبه أينما حلّ وحيثما ارتحل،فنقل إليه الكثير من أخلاقه المتطرّفة وتصرفاته المنحرفة.ومعلوم أنّ جدّه كان مولى للجرّاح بن عبد الله الحكمي.وقد ذكر ابن عساكر في تاريخه أباه من أهل دمشق،من الجند،من رجال مروان بن محمد،انتقل إلى الأهواز من بلاد خوزستان فتزوّج فتاة اسمها"جلبان"فولدت له ولدين أحدهما أبو نوّاس،نشأ بالبصرة ولم يستطع حفظ القرآن نتيجة وفاة والده،فتخبّطت أمّه في الفقر والفاقة،فعمل مبكّرا عند أحد العطّارين،ولكنّ شغفه بالعلم ،وحبّه للمعرفة قاداه إلى مجالسة أعلام البصرة.فأخذ عنهم اللغة العربية والأدب ،ونظم الشعر.يقول ابن خلّكان:ما رأيت قطّ أوسع علما من أبي نوّاس.وأكيد أنّ هذا الأديب ترعرع ميالا إلى الخلاعة والمجون جرّاء معاشرته لصديقه والبة بن الحباب الذي كان سببه في الإصابة بعدوى هذه الأخلاق المنحلّة.وكانت رحلته إلى بغداد سببا في اتصاله بالبرامكة سنة804ميلاديةحيث مدحهم ،فنال جوائزهم القيّمة،واتّصل بالخليفة هارون الرّشيد ومدحه بقصيدة أنشدها إثر انتصار الخليفة في الحرب.وهكذا ظفر بشيئ من حبّ هارون الرشيد،ولكنّه مالبث أن سجنه بعد أن هجا قبائل عدنان.
ولمّا أفرج عنه من السجن توجّه إلى دمشق،ومنها إلى مصر،فمدح أميرها،ثمّ عاد إلى بغداد فأقام فيها زاهدا يدعو الله الثواب والمغفرة.وروي عن أنّ الخصيب أمير مصر وصاجب ديوان الخراج سأل أبا نواس عن نسبه فقال:أغناني أدبي عن نسبي.وقال اسماعيل بن نوبخت: ما رأيت أبدا أوسع علما من أبي نواس ولا أحفظ منه مع قلّة كتبه.وأبو نواس من الطبقة الأولى من الموالين وشعره عشرة أنواع وهو مجيد في العشرة .وقد اعتنى بجمع شعره جماعة من الفضلاء منهم أبو بكر الصولي،وعلي بن حمزة. لذلك يوجد ديوانه مختلفا،ومع شهرة ديوانه لا حاجة لذكره في هذا المقام .وقال اسماعيل بن نوبخت:ورأيت في بعض الكتب أنّ المأمون كان يقول:لو وصفت الدنيا نفسها لما وصفت بمثل قول أبي نواس حيث يقول:
ألا كلّ حــــــيّ هالك وابن هالك****وذو نسب في الهالكين عريق
إذا امتحن اللّبيب الدّنيا تكشّـفت****له عن عدوّ في ثيّاب صـــديق
وكان محمد الأمين قد سخط على أبي نواس لقضية جرت له معه فتهدّده بالقتل وحبسه،فكتب إليه من السّجن:
بك أستـــــجير من الـــــــــرّدى****متعوّذا من ســــــــطو بأسك
وحــــــــــــــياة رأسك لا أعـــــــــــود لمثــــــلها وحيــــــاة رأسك
مــــــن ذا يكـــــــــــون أبا نوّ****سك إن قتـــــلت أبا نوّاســــــك
ولأبي نواس مع الأمين وقائع كثيرة ،وإنّما قيل له أبو نواس لذؤابتين كانتا تنوسان على عاتقيه .وقد وصفه أبو عبد الله الجمّاز فقال:كان أبو نواس أظرف النّاس منطقا،وأغزرهم أدبا،وأقدرهم على الكلام،وأسرعهم جوابا،وأكثرهم حياء.وكان أبيض اللّون ،جميل الوجه،مليح النغمة والإشارة،ملتفّ الأعضاء بين الطويل والقصير،مسنون الوجه قائم الأنف،حسن العينين والمضحك،حلو الصورة لطيف الكفّ والأطراف.وكان فصيح اللّسان جيّد البيان،عذب الألفاظ حلو الشّمائل كثير النوادر ،وأعلم النّاس كيف تكلّمت العرب،راوية للأشعار علاّمة بالأخبار كأنّ كلامه شعر موزون.ومن هجوه لأحد البخلاء يقول:
أبو نوح دخلــــــــت عليه يوما****فغدّاني برائـــــحة الطّـــــــعام
وقدّم بينــــنا لحما سمـــــينا****أكلـــناه على طبــــــــق الكلام
فلمّا أن رفعت يدي سقاني****كؤوسا خـــــــــمرها ريح المدام
فكان كمن سقى الظمآن آلا****وكنت كــــمن تغدّى في المنام
وأبو نواس من متزعّمي المدرسة الجديدة التي تدعو إلى عدم تقليد معاصريه من الشعراء،والتي تبنّت عامل الاندفاع النفسي الذي كان بشّار بن برد من متداوليه.وقد أضاف أبو نواس إلى هذه العامل نزعات تلائم الدّهر الذي يعيش فيه،كما أخذ التّجديد بوعي كامل.ومن غيرالممكن القول بأنّه حذف من الشعر التقليدي كلّيا،بل كانت له أساليب اقتبسها ممّن سبقه،وذلك إرضاء لذوي السلطان وتقرّبا منهم.ولهذا السّبب جاء مدحه ورثاؤه تقليديا.ومن دون أدنى أيّ شكّ فأنّ الرّجل اعتنى عناية كبيرة ببابين وبهما اشتهر،وهما باب الطّرديّات وباب الخمريّات حيث كان أبو نواس أفضل شعراء الخمرة دون منازع.وقد أبلى فيها البلاء الحيّد،لأنّ أسلوبه في الخمريّات كان أسلوبا واقعيا بحيث تناولها بكلّ حواسّه جرّاء عشقه لها.فلقد تكلّم عن منظرها ومشمومها ومذاقها وتأثيرها في الحسّ والنّفس.والملاحظ أنّ أبا نواس استطاع تلافي التكرار المملّ في أسلوبه ،وتمكّن من الابتعاد عن الجمود والتقليد .فجاءت لغته لغة طبيعيّة ملائمة لخفقان عاطفته،ممّا جعل شعره سلسا وواضح المعنى وقريب المنال بفعل ثراء لغته وتنوّع أوزانه وأصناف أنغامه.وهكذا ظلّ أبو نواس متربّعا على القدرة على تشخيص الأشياء الجامدة ورسم اللّوحات الزّاهية بألوان يعبّر من خلالها على كينونته المتأجّحة وخياله القويّ.ومن قوله في وصف الخمرة:
من سلاف كأنّها كلّ شيئ****يتمنّى محيّــــر أن يكونا
أكل الدّهر ما تجسّـــم منها****ويبـقى لبابها مكـــــنونا
فإذا ما اجتلــــيتها فهـــباء****تمنع الكفّ ما تبيح العيونا
وتوفي رحمه الله ببغداد بعد أن أقام بها زاهدا يدعو الله الثواب والمغفرة سنة814ميلادية
محمد الدبلي الفاطمي
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire