القراءة أمّ الحضارات وصانعة الإنسان والتّقدم والإنتصارات
نادرون هم من يقرؤون.لم يعد الكتاب صديقا ولا أنيسا ولا رفيقا جتّى،والأمر لا يتعلّق بالتلاميذ والطلبة فحسب،بل إنّ المدرّسين أنفسهم،لم يعودوا يقرؤون،أو أنّ القراءة عندهم لم تعد تحظى بالأهمّية التي تستحقّها.فأغلب هؤلاء أصبحوا يكتفون بما تعلّموه في الجامعات،أو بما يفيدهم في تهييء دروسهم وإنجازها.لقد أصبحت الكتب المقرّرة والموازية،عند شريحة عريضة من المدرّسين ،معلّمين وأساتذة،هي المرجع ،وليست دعامات للدّرس والتّعلّم.أمّا الموظّفون في مختلف القطاعات،وعلى مستوى كلّ التّخصّصات،فقد اكتفوا،في معظمهم،بحياة العمل،ولم تعد القراءة تعني لهم شيئا،إلاّ ما يكون من قبيل الإكراه الوظيفي،أو ما تفرضه الحاجة.وهذا الواقع يسري على الطّبيب،كما يسري على المحامي وعلى المهندس وهلمّجرّا. الحميع اكتفوا بالتّحصيل الوظيفي،ولم يعد تحيين المعرفة يدخل ضمن اهتماماتهم،أو انشغالاتهم.
إنّ مجتمع الاستهلاك قد أكل جميع هؤلاء، بعد أن ذوّبهم في موجة الهواتف المحمولة والحواسيب أو الشاشات الثلاثية الأبعاد،والسّيارات الرباعية الدّفع،وغيرها ممّا أمسى من أولويات الحياة اليومية لهذه الشرائح،ممّن هم نخب المجتمع،وأطره.أكيد أنّه من حقّ الجميع أن يعيشوا بالطريقة التي يريدونها،فلا أحد له الحقّ في أن يتدخّل في حياة الآخر،وكما ورد فب الأثر أنّ الله يحبّ أن تظهر نعمه على عباده.
لكن،حين نكون في مجتمع مازال غارقا في مستنقعات الأمّية والجهل والشعودة،ويكون التعليم فيه،كما هو حال وضعنا في المغرب،في وضع كارثي،لا يوفّر الحدّ الأدنى من المعرفة،أو ينطلق من معرفة عرجاء لا تتيح فرص الشغل والعمل للأطر والكفاءات بسبب طغيان الزّبونية والمحسوبية والرشوة،ويكون فيه الإنسان عبر سلوكه اليومي،غير مؤهّل للحوار والتّسامح،بعد أن انهارت بداخله كلّ القيم المثلى بما فيها روح المواطنة،والمسؤولية في العمل ،وفي تدبير شؤون المواطنين،وصرف المال العام. حين نكون غير مؤهلين تربويا لممارسة هذا النّوع من الحياة،ومن الرّفاه الذي ليس قيمة مضافة في مجتمع مازالت تعوزه الكثير من الأولويات.فكيف لنا أن نواكب التطوّر المتسارع في مستهلّ القرن الواحد والعشرين ونحن نسافر في المأساة جرّاء ضعفنا المكشوف في جلّ ميادين المعرفة والعلم؟لماذا طلّقنا القراءة طلاقا بائنا بينونة كبرى وديننا يحثّنا ويشجعنا،بل أمرنا ويأمرنا ربّنا بالقراءة قدر المستطاع لأنها الوسيلة الوحيدة القادرة على توجيهنا الوجهة الصحيحة؟ما الذي دفع بشعوبنا إلى الانخراط ،كبارا وصغارا،رجالا ونساء في القيل والقال والنّميمة وأكل لحوم بعضنا البعض،عوض الانشغال بالقراءة والتّحصيل؟
لم تكن القراءة ،في تاريخ المعرفة الإنسانية،وفي المجتمعات التي خرجت من ظلمات الجهل والتّخلّف إلى أنوار المعرفة والحضارة والتّمدّن،من الأمور الثانوية أو الزّائدة،بل كانت ضمن شروط انتقال هذه المجتمعات وتطوّرها،وتربية الإنسان على قيم الحرّية والمساواة والمسؤولية،وعلى روح المواطنة التي لم تكن تعني سوى أن يكون الفرد مسؤولا أمام ضميره ،وأمام الآخرين،ومساهما في نهوض مجتمعه،لا أن يكون حجر عثرة،أو عائقا في وجه التّغيير إلى الأفضل.وأكيد أنّ القراءة والبحث،فرديا وجماعيا،أو ضمن مؤسسات المعرفة المختلفة،هما اللذان ساهما في نشر هذا الوعي،وفي إذكاء روح المسؤولية،وفي إعادة تكوين الإنسان وتربيته وتأهيله.فما تعرفه الجامعات العالمية الكبرى من إقبال على المعرفة وعلى التّعلّم والتّكوين المستمرّ،وتبادل المعارف والخبرات هو أحد مظاهر هذا الوعي في مجتمع المعرفة والعلم.وهكذا نشأ اقتصاد المعرفة الذي يعتبر اليوم أهمّ ما تقوم عليه صناعات عدد من دول العالم،والتي أصبحت تفوق،بل وتضاهي ما تقوم عليه اقتصادات الصناعات الثقيلة،بما فيها صناعة الأسلحة.قال الإمام الشافعي في شأن اكتساب العلم والمعرفة:
ألعلم بحيي قلوب الميّــــــــتين كما****تحيا البلاد إذا ما مسّها المــطر
والعلم يجلو العمى عن عين صاحبه****كما يجلّي سواد الظلمة القمر
إنّ ما ترك الفراعنة من آثار لم تكن مجرّد بنايات للسّكن،أو إقامات شخصية تعكس ترجمة الرّفاه لديهم،بل الأهرامات هي صورة للفكر العلمي المتقدّم الذي كانت تقوم عليه ثقافة ذلك المجتمع الفرعوني،والأهمية التي أولاها ملوك المصريين القدامى للعلم والمعرفة.وما يصلنا اليوم من كتابات الآشوريين والسوماريين والبابليين ،وما أولته الحضارات الأسيوية القديمة من أهمية للقراءة ،وتشييد المكتبات،والاهتمام بتأليف الكتب وترجمتها في مختلف حقول العلم والمعرفة،بما فيها الشعر والأدب والنّحت والرّسم أو الحفر على الجدران،وما عرفته الحضارة العربية ،خلال حكم الأمويين وبني العبّاس،بشكل خاص،كلّها تفيد بمدى أهمّية المعرفة والفكر والفنّ،وأهمّية القراءة في المجتمع.فما حدث من تطوّر في هذه المجتمعات،وازدهار العلوم فيها،من فلك وفيزياء وطبّ ورياضيات وفلاحة،والانفتاح على تجارب الحضارات المجاورة،أو البعيدة،عن طريق الترجمة،ونقل المعارف،لم يأت نتيجة الرّفاه الذي يخفي المعرقة أو يحجبها.فالرّفاه في هذه المجتمعات هو نتيجة لهذا الازدهار المعرفي الكبير.وفي سياق هذا الانتقال الذي حدث بوتيرة متسارعة في تلك المجتمعات بعث مناخ البحث العلمي والفكري اللّذان كانت للدّولة اليد الطّولى في إحيائهما.وقد لعب بعض الحكّام ،ممّن استهوتهم القراءة،بشكل خاص،دورا كبيرا في نشر العلم والمعرفة،من خلال إقامة مكتبات حفظت ذخائر علمية أضاءت جزءا غامضا من التاريخ العلمي للبشرية جمعاء.قال الشاعر:
كفى بالعلم في الظلمات نورا****يبيّن في الـــــــــحياة لنا الأمـورا
فكم وجد الــــــذّليل به اعتزازا****وكم لبس الحــــــــزين به سرورا
تزيد به العقول هــــدى ورشدا****تزيد وتستعلي النّفوس به شعورا
إذا ما عـــــــقّ موطنهم أناس****ولم يبــــــنوا به للعــــــــــلم دورا
فإنّ ثيابهم أكــــفـان موتـــــى****وليــــس بيــوتهـــم إلاّ قـــــــبورا
وحقّ لمثلهم في العيش ضنك****وأن يدعـــوا بدنيـــاهم ثــبــــــورا
أرى لبّ العلــــى أدبا وعلـــما****بغيــرهما العلى أمست قشـــورا
إنّ المعرفة في مجموع الوطن العربي ليست سوى معرفة سطحية،تقوم على التّقليد والإجترار،وعلى استعمال جهود الآخرين وابتكاراتهم،لا على ما تبدعه العقول العربية التي ابتلعها التّحجّر والجمود.ذلك أنّ الفكر العربي ،من المحيط إلى الخليج،تنازل عن العقل والخيال،كتنازله عن الخلق والإبداع،وركن إلى الخمول والفساد بعد أن عجز عن تحيين معرفته التي تقادمت بفعل التكرار والتّقليد،أو بفعل الجهل الذي لم يعد جهل القراءة والكتابةبقدر ما أصبح تخلّفا في الوعي والفهم لأوضاعنا فضلا عن عدم قدرتنا على قياس المسافة التي تفصلنا عن الآخر الذي يمثّل القارئ العالم المبتكر،والذي وصل إلى الرّفاه عن طريق سبر أغوار المعرفة والعلم،وليس عن طريق التقليد والتّبعيّة.قال الشاعر:
ليس من مات فاستراح بميّت****إنّما المــــيّت ميّـــــــــــت الأحياء
إنّ أمّتنا تملك من الكتب والمخطوطات الحاملة للعلم والمعرفةعددا لا يستهان به إلاّ أنّ هذه الكنوز ما زالت حبيسة المتاحف أو المكتبات المهجورة أو مدفونة في الأقبية نظرا لعدم توفّر الرّغبة في القراءة.وضعف القراءة هذا ،أو انعدامها عندنا،أعتبره تعبيرا صارخا عن ضعف وعينا بالانتقالات التي تحدث في العلوم والمعارف المختلفة،وفي المفاهيم والقيم،الأمر الذي حتّم علينا التّبعيّة باستمرار.ألم نعلم بأنّ الإنسان خرج من السّحر والأسطورة بالفكر الفلسفي قلقا ومتوتّرا بسبب مواجهته لوجوده،ومساءلته بغي معرفة هذا الإنسان لنسفه؟ألم يقل سقراط بأنّه قرأ على مدخل معبد دلفي عبارة "أعرف نفسك بنفسك"؟.
إذا كان العبريّون يعطون مسألة النشر والترجمة أهمّية قصوى،ويدعمون البحث العلمي بميزانيات مالية ضخمة،فلأنّهم أدركوا أنّ أهمّية المعرفة ،وأهمّّية العلم، هما اللّذان كانا وراء النّهضة الأوربية،ووصول الحضارة الإنسانية إلى ما وصلت إليه من تطوّر علمي وتقني.فلماذا أوصلنا أنفسنا وشعوبنا إلى الطّريق المسدود علما أنّ الشّعب المثقّف العالم العارف هو الذي يحكم ويراقب ويساهم في الحياة العامّة،ولا يقبل بالنظم الاستفرادية والاستبدادية.فالشعب هو الذي له صوت يحترم وليس شعبا يقوده الجهل والفقر والظلام،أو يحكمه الماضي ويوجّهه المتديّنون المتزمّتون.
القراءة إذن تربية وسلوك،وحاجة يومية مثل الماء والهواء،بدونها نعيش مقيّدين كعبيد أفلاطون قال أحد الشعراء الأجلاّء:
ألعلم في الصدر مثل الشمس في الفلك****والعقل للمرء مثل التّاج للـملك
فاشدد يــــديك بحــــــبل العلم معتصما****فالعلم للمرء مثل الماء للسّمك
إذا أردت الحصول على ميراث أبيك فتعلّم علم أبيك،لأنّ مال أبيك يمكن إنفاقه في يوم واحد.
محمد الدبلي الفاطمي ،
نادرون هم من يقرؤون.لم يعد الكتاب صديقا ولا أنيسا ولا رفيقا جتّى،والأمر لا يتعلّق بالتلاميذ والطلبة فحسب،بل إنّ المدرّسين أنفسهم،لم يعودوا يقرؤون،أو أنّ القراءة عندهم لم تعد تحظى بالأهمّية التي تستحقّها.فأغلب هؤلاء أصبحوا يكتفون بما تعلّموه في الجامعات،أو بما يفيدهم في تهييء دروسهم وإنجازها.لقد أصبحت الكتب المقرّرة والموازية،عند شريحة عريضة من المدرّسين ،معلّمين وأساتذة،هي المرجع ،وليست دعامات للدّرس والتّعلّم.أمّا الموظّفون في مختلف القطاعات،وعلى مستوى كلّ التّخصّصات،فقد اكتفوا،في معظمهم،بحياة العمل،ولم تعد القراءة تعني لهم شيئا،إلاّ ما يكون من قبيل الإكراه الوظيفي،أو ما تفرضه الحاجة.وهذا الواقع يسري على الطّبيب،كما يسري على المحامي وعلى المهندس وهلمّجرّا. الحميع اكتفوا بالتّحصيل الوظيفي،ولم يعد تحيين المعرفة يدخل ضمن اهتماماتهم،أو انشغالاتهم.
إنّ مجتمع الاستهلاك قد أكل جميع هؤلاء، بعد أن ذوّبهم في موجة الهواتف المحمولة والحواسيب أو الشاشات الثلاثية الأبعاد،والسّيارات الرباعية الدّفع،وغيرها ممّا أمسى من أولويات الحياة اليومية لهذه الشرائح،ممّن هم نخب المجتمع،وأطره.أكيد أنّه من حقّ الجميع أن يعيشوا بالطريقة التي يريدونها،فلا أحد له الحقّ في أن يتدخّل في حياة الآخر،وكما ورد فب الأثر أنّ الله يحبّ أن تظهر نعمه على عباده.
لكن،حين نكون في مجتمع مازال غارقا في مستنقعات الأمّية والجهل والشعودة،ويكون التعليم فيه،كما هو حال وضعنا في المغرب،في وضع كارثي،لا يوفّر الحدّ الأدنى من المعرفة،أو ينطلق من معرفة عرجاء لا تتيح فرص الشغل والعمل للأطر والكفاءات بسبب طغيان الزّبونية والمحسوبية والرشوة،ويكون فيه الإنسان عبر سلوكه اليومي،غير مؤهّل للحوار والتّسامح،بعد أن انهارت بداخله كلّ القيم المثلى بما فيها روح المواطنة،والمسؤولية في العمل ،وفي تدبير شؤون المواطنين،وصرف المال العام. حين نكون غير مؤهلين تربويا لممارسة هذا النّوع من الحياة،ومن الرّفاه الذي ليس قيمة مضافة في مجتمع مازالت تعوزه الكثير من الأولويات.فكيف لنا أن نواكب التطوّر المتسارع في مستهلّ القرن الواحد والعشرين ونحن نسافر في المأساة جرّاء ضعفنا المكشوف في جلّ ميادين المعرفة والعلم؟لماذا طلّقنا القراءة طلاقا بائنا بينونة كبرى وديننا يحثّنا ويشجعنا،بل أمرنا ويأمرنا ربّنا بالقراءة قدر المستطاع لأنها الوسيلة الوحيدة القادرة على توجيهنا الوجهة الصحيحة؟ما الذي دفع بشعوبنا إلى الانخراط ،كبارا وصغارا،رجالا ونساء في القيل والقال والنّميمة وأكل لحوم بعضنا البعض،عوض الانشغال بالقراءة والتّحصيل؟
لم تكن القراءة ،في تاريخ المعرفة الإنسانية،وفي المجتمعات التي خرجت من ظلمات الجهل والتّخلّف إلى أنوار المعرفة والحضارة والتّمدّن،من الأمور الثانوية أو الزّائدة،بل كانت ضمن شروط انتقال هذه المجتمعات وتطوّرها،وتربية الإنسان على قيم الحرّية والمساواة والمسؤولية،وعلى روح المواطنة التي لم تكن تعني سوى أن يكون الفرد مسؤولا أمام ضميره ،وأمام الآخرين،ومساهما في نهوض مجتمعه،لا أن يكون حجر عثرة،أو عائقا في وجه التّغيير إلى الأفضل.وأكيد أنّ القراءة والبحث،فرديا وجماعيا،أو ضمن مؤسسات المعرفة المختلفة،هما اللذان ساهما في نشر هذا الوعي،وفي إذكاء روح المسؤولية،وفي إعادة تكوين الإنسان وتربيته وتأهيله.فما تعرفه الجامعات العالمية الكبرى من إقبال على المعرفة وعلى التّعلّم والتّكوين المستمرّ،وتبادل المعارف والخبرات هو أحد مظاهر هذا الوعي في مجتمع المعرفة والعلم.وهكذا نشأ اقتصاد المعرفة الذي يعتبر اليوم أهمّ ما تقوم عليه صناعات عدد من دول العالم،والتي أصبحت تفوق،بل وتضاهي ما تقوم عليه اقتصادات الصناعات الثقيلة،بما فيها صناعة الأسلحة.قال الإمام الشافعي في شأن اكتساب العلم والمعرفة:
ألعلم بحيي قلوب الميّــــــــتين كما****تحيا البلاد إذا ما مسّها المــطر
والعلم يجلو العمى عن عين صاحبه****كما يجلّي سواد الظلمة القمر
إنّ ما ترك الفراعنة من آثار لم تكن مجرّد بنايات للسّكن،أو إقامات شخصية تعكس ترجمة الرّفاه لديهم،بل الأهرامات هي صورة للفكر العلمي المتقدّم الذي كانت تقوم عليه ثقافة ذلك المجتمع الفرعوني،والأهمية التي أولاها ملوك المصريين القدامى للعلم والمعرفة.وما يصلنا اليوم من كتابات الآشوريين والسوماريين والبابليين ،وما أولته الحضارات الأسيوية القديمة من أهمية للقراءة ،وتشييد المكتبات،والاهتمام بتأليف الكتب وترجمتها في مختلف حقول العلم والمعرفة،بما فيها الشعر والأدب والنّحت والرّسم أو الحفر على الجدران،وما عرفته الحضارة العربية ،خلال حكم الأمويين وبني العبّاس،بشكل خاص،كلّها تفيد بمدى أهمّية المعرفة والفكر والفنّ،وأهمّية القراءة في المجتمع.فما حدث من تطوّر في هذه المجتمعات،وازدهار العلوم فيها،من فلك وفيزياء وطبّ ورياضيات وفلاحة،والانفتاح على تجارب الحضارات المجاورة،أو البعيدة،عن طريق الترجمة،ونقل المعارف،لم يأت نتيجة الرّفاه الذي يخفي المعرقة أو يحجبها.فالرّفاه في هذه المجتمعات هو نتيجة لهذا الازدهار المعرفي الكبير.وفي سياق هذا الانتقال الذي حدث بوتيرة متسارعة في تلك المجتمعات بعث مناخ البحث العلمي والفكري اللّذان كانت للدّولة اليد الطّولى في إحيائهما.وقد لعب بعض الحكّام ،ممّن استهوتهم القراءة،بشكل خاص،دورا كبيرا في نشر العلم والمعرفة،من خلال إقامة مكتبات حفظت ذخائر علمية أضاءت جزءا غامضا من التاريخ العلمي للبشرية جمعاء.قال الشاعر:
كفى بالعلم في الظلمات نورا****يبيّن في الـــــــــحياة لنا الأمـورا
فكم وجد الــــــذّليل به اعتزازا****وكم لبس الحــــــــزين به سرورا
تزيد به العقول هــــدى ورشدا****تزيد وتستعلي النّفوس به شعورا
إذا ما عـــــــقّ موطنهم أناس****ولم يبــــــنوا به للعــــــــــلم دورا
فإنّ ثيابهم أكــــفـان موتـــــى****وليــــس بيــوتهـــم إلاّ قـــــــبورا
وحقّ لمثلهم في العيش ضنك****وأن يدعـــوا بدنيـــاهم ثــبــــــورا
أرى لبّ العلــــى أدبا وعلـــما****بغيــرهما العلى أمست قشـــورا
إنّ المعرفة في مجموع الوطن العربي ليست سوى معرفة سطحية،تقوم على التّقليد والإجترار،وعلى استعمال جهود الآخرين وابتكاراتهم،لا على ما تبدعه العقول العربية التي ابتلعها التّحجّر والجمود.ذلك أنّ الفكر العربي ،من المحيط إلى الخليج،تنازل عن العقل والخيال،كتنازله عن الخلق والإبداع،وركن إلى الخمول والفساد بعد أن عجز عن تحيين معرفته التي تقادمت بفعل التكرار والتّقليد،أو بفعل الجهل الذي لم يعد جهل القراءة والكتابةبقدر ما أصبح تخلّفا في الوعي والفهم لأوضاعنا فضلا عن عدم قدرتنا على قياس المسافة التي تفصلنا عن الآخر الذي يمثّل القارئ العالم المبتكر،والذي وصل إلى الرّفاه عن طريق سبر أغوار المعرفة والعلم،وليس عن طريق التقليد والتّبعيّة.قال الشاعر:
ليس من مات فاستراح بميّت****إنّما المــــيّت ميّـــــــــــت الأحياء
إنّ أمّتنا تملك من الكتب والمخطوطات الحاملة للعلم والمعرفةعددا لا يستهان به إلاّ أنّ هذه الكنوز ما زالت حبيسة المتاحف أو المكتبات المهجورة أو مدفونة في الأقبية نظرا لعدم توفّر الرّغبة في القراءة.وضعف القراءة هذا ،أو انعدامها عندنا،أعتبره تعبيرا صارخا عن ضعف وعينا بالانتقالات التي تحدث في العلوم والمعارف المختلفة،وفي المفاهيم والقيم،الأمر الذي حتّم علينا التّبعيّة باستمرار.ألم نعلم بأنّ الإنسان خرج من السّحر والأسطورة بالفكر الفلسفي قلقا ومتوتّرا بسبب مواجهته لوجوده،ومساءلته بغي معرفة هذا الإنسان لنسفه؟ألم يقل سقراط بأنّه قرأ على مدخل معبد دلفي عبارة "أعرف نفسك بنفسك"؟.
إذا كان العبريّون يعطون مسألة النشر والترجمة أهمّية قصوى،ويدعمون البحث العلمي بميزانيات مالية ضخمة،فلأنّهم أدركوا أنّ أهمّية المعرفة ،وأهمّّية العلم، هما اللّذان كانا وراء النّهضة الأوربية،ووصول الحضارة الإنسانية إلى ما وصلت إليه من تطوّر علمي وتقني.فلماذا أوصلنا أنفسنا وشعوبنا إلى الطّريق المسدود علما أنّ الشّعب المثقّف العالم العارف هو الذي يحكم ويراقب ويساهم في الحياة العامّة،ولا يقبل بالنظم الاستفرادية والاستبدادية.فالشعب هو الذي له صوت يحترم وليس شعبا يقوده الجهل والفقر والظلام،أو يحكمه الماضي ويوجّهه المتديّنون المتزمّتون.
القراءة إذن تربية وسلوك،وحاجة يومية مثل الماء والهواء،بدونها نعيش مقيّدين كعبيد أفلاطون قال أحد الشعراء الأجلاّء:
ألعلم في الصدر مثل الشمس في الفلك****والعقل للمرء مثل التّاج للـملك
فاشدد يــــديك بحــــــبل العلم معتصما****فالعلم للمرء مثل الماء للسّمك
إذا أردت الحصول على ميراث أبيك فتعلّم علم أبيك،لأنّ مال أبيك يمكن إنفاقه في يوم واحد.
محمد الدبلي الفاطمي ،
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire